الطيران وتأثيره في صحة الطيار - دورة السلامة الشخصية والمسئوليات الاجتماعية ( الدورات الحتمية للنقل التجاري )
كثيرة هي الأحداث الغريبة وغير المألوفة في عالم الطيران، وأبرز تلك الأحداث، ما حدث لطائرة الركاب الأميركية التابعة لشركة نورث ويست، حينما نسي طاقم الطيارين على متنها الهبوط بها في المطار المفترض أن يقوموا بالهبوط به وهو «مينابوليس» وتعدوا ذلك في تحليق لمسافة تجاوزت 250 كلم، وفيما تشير التحقيقات الأولية بأن الطاقم قد كان غافيا أو في حالة انهاك شديد، فان هذه لم تكن المرة الأولى، فما أبعاد تلك الحادثة الغريبة على سلامة الطيران؟ وما الأسباب التي أدت بالطاقم الى تجاوز مدرج الهبوط دون تعمد منهم؟
في رحلة مشابهة لأحداث الرحلة الأخيرة لطائرة نورث وست، وخلال رحلة جوية في وضح النهار لطائرة تابعة لشركة طيران داخلي بجزيرة هاواي، خرجت الطائرة عن مسارها فجأة من دون سابق انذار، بعد أن اجتازت نقطة البدء بالهبوط بالمطار المقصود، وبعد محاولات يائسة من قبل برج المراقبة وبعض الطائرات المحلقة في رحلات جوية معتادة كانت قريبة منها للاتصال مع الطائرة الخارجة عن المسار، تمكن طاقمها بعد مضي 26 دقيقة من معاودة الاتصال ببرج المراقبة وإخطاره أن عطلا ما على ما يبدو قد تسبب في خروج الطائرة عن مسارها، لكن الحقيقة تم اكتشافها بعد هبوط الطائرة واعتراف الطيار ومساعده بأنهما قد غفوا بالوقت نفسه من دون أن يعي أحدهما بالآخر، نتيجة للارهاق الذي أصابهما جراء عدم تلقيهما راحة كافية بعد أداء الرحلات الجوية، ويفقد كلاهما وظيفته بالشركة.
أحداث مشابهة
لم تكن الحادثة المذكورة الأولى في وقوع طاقم القيادة للطائرة في حالة غفوة عارضة، فقد وقع طياران بشركة الخطوط الجوية الفيتنامية في احدى الرحلات الجوية الروتينية فوق التشيك في غفوة نوم كادت أن تؤدي الى اسقاط الطائرة بمن فيها من ركاب وطاقم من قبل مقاتلات سلاح الجو التشيكي، الذي واكب الطائرة لحين خروجها من الأجواء التشيكية، بعد أن صحا الطياران من غفوتهما القصيرة. وعادة ما تسمح شركات الطيران لطياريها بأخذ غفوة قصيرة لأحد الطيارين شريطة أن يبقى الآخر يقظا لكن قوانين الـFAA لا تسمح بذلك لأسباب تتعلق بالسلامة، وبالطبع لمنع وقوع كلا الطيارين (بعد أن أصبحت قمرات الطائرات تعمل بطيارَين فقط) في النعاس من دون أن يكون هناك من يراقب الوضع.
عامل الإرهاق
يتطلب الطيران في معظم الأحيان تركيزا عاليا الى جانب يقظة كاملة من قبل الطيارين، ومع زيادة ساعات التحليق فان أولئك الطيارين قد يتعرضون للاجهاد وتشتت الذهن الى جانب الضغوط المحيطة بحياتهم العملية، ولهذا قامت ووكالة الطيران والفضاء الوطنية (ناسا) منذ عام 1989 بدراسة هذه الظاهرة، وأجرت تجارب عدة لقياس مدى تأثيرها على سلامة الطيران، وقد توصلت الى أن الطاقم الذي يأخذ قسطا من الراحة، خصوصا على الرحلات البالغة الطول، مدته لا تتجاوز 40 دقيقة يكون أكثر تركيزا ويقظة من أولئك الذين لا يأخذون أي فترة للراحة خصوصا في مرحلة الاقتراب من المدرج والهبوط، التي تعد الأكثر حرجا. لقد تبين أن غفوة لا تتجاوز الـ30 ثانية أثناء عملية الهبوط في نهاية رحلة جوية طويلة قد تجعل من الطيار يغفل عن وميض لمصباح تنبيه لخلل ما قد يطرأ على الطائرة أثناء ذلك، كافية لتهديد حياة الركاب الى جانب الطاقم وتعريضهم للخطر.
التحليق لمدة طويلة
لقد أضحت الطائرات أكثر قدرة من حدود القدرة البشرية، ولهذا بات من الضروري أن يتم تجهيز الطاقم بتجهيزات تكفل لهم مواكبة ذلك التطور، ومع دخول الطائرات الحديثة القادرة على الطيران من دون توقف لمدة قد تصل الى 20 ساعة مثل ايرباص A340-500 وبوينغ B777-200LR الى الخدمة، فان شركات عدة قد بدأت في تطبيق قوانين هيئة الطيران المدنية العالمية مثل FAA وغيرها التي تنص على أن يكون هناك طيار احتياطي ثالث عندما تتجاوز مدة الرحلة الجوية 8 ساعات، فيما يتعين أن يكون هناك طاقم بديل أي طيارين احتياطيين للرحلات التي تتجاوز مدتها 12 ساعة، الى جانب كابينة للراحة عند تبديل المناوبة بينهما، وقد جُهزت بوينغ وايرباص طائراتها الحديثة من فئة البدن العريض بتلك الكبائن الموضوعة في سقف الكابينة الرئيسية للطائرة.
التعرض للذهان في الجو
تحدث تقرير طبي عن حالات عديدة لطيارين تعرضوا الى ما يعرف بفقدان الوعي بالموقع أو الحيز المكاني الذي هم فيه وهم يحلقون بالطائرة، وهو ما يعرف علميا بمصطلح Spatial Disorientation ويتوهم الطيارون المصابون بهذه الحالة بأشياء غريبة بعيدة عن الواقع على سبيل المثال كأنهم جالسون خارج الطائرة أو على الجناح، لكن الأدهى من ذلك هو أن التقرير يرجح أن أكثر من ربع الحوادث التي وقعت قد تعود الى تعرض الطيارين الى هذه الحالة أو اختصارا SD، وتحدث مثل هذه الظاهرة للطيارين وحتى الأشخاص الذين يمر عليهم الوقت دون الخلود للراحة التامة أو عند اختلاف أوقات العمل لديهم من ليل لصبح أو العكس، أو ما يعرف باضطراب الساعة البيولوجية أو JET LAG.
الأزمة في تفاقم
للأسف، رغم تطور البرامج التدريبية وتطور الطائرات التي باتت تخفف عن الطيارين الكثير من الأعباء، لكن المشكلة الحالية لا تزال في تفاقم مستمر، فسوء تنظيم الرحلات وتوزيع كادر الطيارين عليها من قبل الشركات قد أدى الى مزيد من ارهاق الطيارين، الأمر الذي جعلهم أشبه بآلات تعمل على مدار الساعة دون الالتفات الى قدراتهم الذهنية والجسمانية، عدا عن التوتر والازعاج، ولهذا نجد أن العديد من الطيارين يكون مرهقا جدا ولا يخضع في الغالب للراحة بسبب ضغوط الحياة الاجتماعية الأخرى، وبالتالي فان المشكلة تحتاج الى حلول فنية تكفل ربحية الشركات في مقابل الحفاظ على سلامة الطيارين وبالطبع تبقي على الركاب أحياء يرزقون!
هل تحل خوذة «ناسا» مشكلة إنهاك الطيارين؟
تختبر حاليا وكالة «ناسا» خوذة معدلة تشبه إلى حد كبير تلك التي لطياري المقاتلات ولكن يحيط بها عدة وصلات ملحقة بجهاز كمبيوتر يعمل بالأشعة تحت الحمراء، حيث تقوم تلك الأشعة باختراق جلد الرأس وصولا إلى المخ لقياس كمية الدم التي يتم ضخها إليه، وذلك ضروري لتحديد مدى يقظة ونشاط الطيار لتحديد ما إذا بدأ يعاني الإجهاد والإرهاق. وتهدف هذه التجارب بواسطة تلك الخوذة، إلى معرفة القصور الذي قد يتعرض له ذهن الطيار أثناء مزاولته لعمله ومدى تأثير ضغط العمل فيه، وبالتالي يمكن معه تحسين نسبة اتخاذ الطيار للقرار السليم من دون أن يعرض نفسه وأفراد طاقمه والركاب للخطر.
ليست هناك تعليقات